حضور إسلامي متميز في إسبانيا

انطلاقا من الرسالة الحضارية لرابطة العالم الإسلامي الهادفة إلى التعريف بحقيقة الإسلام، والدفاع عن الحقوق الدينية والثقافية والاجتماعية للجاليات المسلمة عبر العالم، واستلهاما لتوجهات وثيقة مكة المكرمة الداعية إلى الحوار الحضاري وتجاوز معوقات التعايش، والتخلص من الأحكام المسبقة المحملة بعداوات التاريخ، واصل الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين، برنامج زياراته للعواصم الغربية التي سبق له أن قام بها في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وسويسرا، والالتقاء بالنخب السياسية والفكرية والإعلامية والدبلوماسية والقيادات الدينية في هذه الدول، والتحاور معها بأسلوب متسامح ومعتدل من منطلق رؤية إسلامية استشرافية وحكيمة، منفتحة على الآخر، ومقتنعة بالاختلاف والتنوع الثقافي.
وفي هذا السياق، قام الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بزيارة عمل في مدينتي غرناطة ومدريد بإسبانيا في الفترة من 17 إلى 19 نونبر 2025، التقى خلالها بكل من بيدرو رويان أوخيدا، رئيس مجلس الشيوخ الإسباني، والسيناتور بيثينتي اثبياتارتي، عضو مجلس الشيوخ، ودافيد خمينيث، رئيس جمعية أصدقاء الحمراء. كما التقى الدكتور العيسى بكل من ماريا فرانسيسكا كارازو فيلالونجا، عمدة مدينة غرناطة، وهنا جلول، نائبة لجنة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي وعضو الحزب الحاكم في إسبانيا.
وخلال هذه اللقاءات، تمت مناقشة سبل تعزيز التعاون الثنائي بين الرابطة وبين المؤسسات الإسبانية المذكورة من أجل نشر قيَم الحوار الفعال والتواصل المستدام بين الحضارات والثقافات. كما تم استعراض جهود رابطة العالم الإسلامي المُوجَهة لخدمة الأقليات الإسلامية في المجتمع الإسباني وتعزيز اندماجها الإيجابي، والإشادة بالدور الذي تقوم به الرابطة في توضيح القيم الإسلامية الداعية إلى التفاهم والاحترام المتبادل؛ تحقيقا للتعايش السلمي بين الشعوب والأمم، والتنويه بالمضمون الحضاري لـ”وثيقة مكة المكرمة”.
وتضمنت زيارة الشيخ العيسى أنشطة أكاديمية مهمة شملت إلقاء محاضرة في “قصر الحمراء” بمدينة غرناطة، حول موضوع “تجارب وآراء في دبلوماسية الحوار للحد من مخاطر الصدام والانقسام بين الأمم والشعوب بعد ميثاق الأمم المتحدة”. كما قدم محاضرة ثانية في مقر البيت العربي التابع لوزارة الخارجية الإسبانية بمدريد حول موضوع “السلام العالمي، الحوار المتبادل والتفاهم بين الحضارات”. وفي لقاء مع عدد من قيادات العمل الثقافي الإسلامي في إسبانيا، ألقى الشيخ العيسى عرضا مستفيضا حول وضعية المسلمين في أوروبا بشكل عام وفي إسبانيا على وجه الخصوص.
إن زيارة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي لإسبانيا تكتسي أهمية بالغة لاعتبارات عديدة نعرضها بإيجاز في النقط التالية:
1ـ العلاقات التاريخية الطويلة والعميقة التي تربط إسبانيا بالمسلمين والتي بدأت مع فتح الأندلس عام 711 م، حيث شهدت المنطقة حضارة إسلامية مزدهرة استمرت قرابة 800 عام حتى سقوط غرناطة عام 1492 م.
خلال هذه الفترة، ترك المسلمون بصمة ثقافية وحضارية عميقة على إسبانيا، من خلال العلم والهندسة والعمارة. كما أنهم عانوا من اضطهاد شديد وتطهير عرقي ديني بعد انتهاء الحكم الإسلامي.
2ـ بدأت الموجة الأولى من وصول المسلمين إلى قلب إسبانيا في التاريخ الحديث في الخمسينيات من القرن الماضي، وتسارعت في منتصف الستينيات نتيجة للعلاقات الممتازة بين نظام فرانكو وبين العالم العربي. جاء عشرات آلاف من الشبان من سوريا ومصر وفلسطين والأردن ولبنان والمغرب لدراسة الطب وغيرها من الشهادات المهنية في الجامعات الإسبانية. كانت جاذبية إسبانيا للطلبة العرب في السياق الأوروبي واضحة؛ مقارنة بالبلدان الأخرى، قدمت إسبانيا عددا أقل من القيود البيرقراطية، وانخفاضا في تكاليف المعيشة، ومنحا دراسية، ومساعدات مالية خلال إقامة الطالب.
3ـ تم الاعتراف رسميا بالإسلام في إسبانيا من خلال قانون صدر عام 1992 يقر بالدين الإسلامي كجزء عميق من الثقافة الإسبانية، في سياق اعترافات أخرى بالأديان البروتستانتية واليهودية. وجاء هذا الاعتراف بعد سنوات من حظر الإسلام، الذي بدأ مع سقوط الأندلس وطرد المسلمين، وتم إحياؤه تدريجيا بسبب الهجرة في العصور الحديثة.
4ـ يواجه المسلمون اليوم في إسبانيا حملات التمييز العنصري والكراهية والإسلاموفوبيا التي تقوم بها بين الفينة والأخرى أحزاب اليمين المتطرف وعلى رأسها حزب “بوكس”. ففي دراسة نشرتها شهر فبراير 2025 الجمعية المغربية لإدماج المهاجرين في إسبانيا، فإن 47 في المائة من المسلمين، حسب استطلاع للرأي، أكدوا أنهم كانوا هدفا لاعتداءات عنصرية في إسبانيا. كما أظهرت نتائج هذه الدراسة أن حالات التمييز بسبب العنصرية وكراهية المسلمين لا تزال مثيرة للقلق. ومن أشكال التمييز العنصري رفض تشغيل النساء المسلمات الحملات للحجاب.
5ـ وجود عدد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية التي انتشرت، خصوصا بعد صدور حرية الأديان ويبلغ عددها 53؛ منها المركز الإسلامي الإسباني، وجمعية المسلمين الإسبان في غرناطة، والجمعية الإسلامية في إسبانيا، والجمعية الإسلامية في قرطبة، والجمعية الإسلامية في إشبيلية، والمفوضية الإسلامية في إسبانيا. كما يبلغ عدد المساجد في إسبانيا نحو ألفي مسجد. ومن أكبر وأهم هذه المراكز المركز الثقافي الإسلامي بمدريد التابع لرابطة العالم الإسلامي الذي تم تأسيسه في شتنبر 1992 بحضور ملك إسبانيا السابق خَوَان كارلوس والعاهل السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز.
6ـ تجسد الزيارة الاهتمام المتواصل لرابطة العالم الإسلامي ولأمينها العام بالأقليات المسلمة وقضاياها، والتواصل مع مسؤولي البلدان المضيفة لعلاج المشكلات التي تواجهها هذه الأقليات في حدود الدساتير والأنظمة المحلية. كما تعبر الزيارة عن دعم الرابطة للوجود الإسلامي وللمسلمين في إسبانيا من خلال الدفاع عن حقوقهم الدينية والثقافية والاجتماعية، والسعي لدى السلطات المختصة لكي يكون لهذه الأقليات المسلمة كيانا قانونيا يوفر لها إمكانات الاندماج في المجتمعات التي تعيش في وسطها على النحو الذي لا يفقدها خصوصياتها، ولا يؤثر في تركيبتها.
من جهة أخرى، فإن هذه الزيارة في بعدها الدبلوماسي والثقافي والفكري والسياسي والحضاري أكدت أن فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى أصبح اليوم في مقدمة القيادات الدينية والفكرية في العالم الإسلامي وعلى الصعيد الدولي التي تؤمن بأن الحوار هو خير وسيلة لضمان التعايش السلمي بين الشعوب وإزالة أسباب سوء الفهم وتشويه صورة الآخر وثقافته وحضارته.
ومن هذا المنطلق، ما فتئ يبذل جهودا كبيرة من أجل تعزيز التعايش بين أتباع الأديان، واستتباب الأمن والسلم العالميين، وتعزيز الدور الإسلامي والإنساني والحضاري لرابطة العالم الإسلامي، وإبراز مكانتها دوليا،
وإعطاء مناشطها بُعدا واسعا، وحضورا عالميا، وحرصه الشديد على تفعيل توصيات وتوجهات مبادرة الرابطة الرائدة “بناء جسور التفاهم والسلام بين الشرق والغرب”.
واللافت في زيارة الشيخ محمد العيسى لإسبانيا دعوته في مناسبات عديدة إلى “استمرار الرابطة في برامجها لتعزيز الوعي الإسلامي لدى الجاليات المسلمة القائم على الوعي الحضاري، خصوصا التأكيد على ثقافة الاندماج الإيجابي وفاء وصدق المواطنة، واحترام الدساتير والقوانين التي تحكمهم وأن هذا لا يتعارض من حيث المبدأ مع هويتهم الدينية، ومن وجد غير ذلك فإن عليه مغادرة الدولة التي لا ينسجم مع دستورها وقانونها لأي سبب من الأسباب كان عدم انسجامه”.
مرة أخرى يبرهن الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي على أنه بحق صوت الاعتدال والوسطية والتسامح؛ فقد استطاع في زياراته المتعددة، غربا وشرقا، أن يتحاور بحكمة مع القيادات السياسية والحزبية والبرلمانية والفكرية والدينية والإعلامية ويتواصل معها باقتدار وباحترام، خلافا لدعاة التشدد والانغلاق والغلو والتطرف؛ فحظي بالثقة والإعجاب لأنه قدم صورة إيجابية عن المفكر المسلم المتشبث بهويته والمنفتح على الآخر، المؤمن بأن الغاية الكبرى من الحوار هي التفاهم والتقارب والتعاون الإنساني وتصحيح المفاهيم المغلوطة.
لذلك، ليس مستغربا أن يصرح رئيس مجلس الشيوخ الإسباني بأن فضيلة الشيخ محمد العيسى “أكثر الشخصيات الدينية احتراما في العالم الإسلامي”، ويمنحه أرفع ميداليةٍ للمجلس

تعليقات 0