26 نوفمبر 2025 05:19
الرئيسيةأخبارفيلم “الحي الصيني” .. حيث تتحول الحقيقة إلى جرح في ذاكرة المدينة

فيلم “الحي الصيني” .. حيث تتحول الحقيقة إلى جرح في ذاكرة المدينة

أي عالمٍ هذا الذي يُخفي الحقيقة في وضح النهار؟ وأي مدينةٍ تلك التي يتسرّب فيها الفساد مع الماء إلى عروق الناس؟ وهل يمكن للعدالة أن تنجو في فضاءٍ تُدار فيه القيم بالمال، وتُباع فيه الأرواح باسم المصلحة؟ في سينما رومان بولانسكي، تُحرق حدود اليقين وتكشف هشاشة الإنسان حين يواجه ذاته والعالم. في فيلم “الحي الصيني”، ليس مجرد فيلم، فهو جرحٌ مفتوح في ذاكرة المدينة، حيث يهمس غيتيس في النهاية، كمن يسلّم مصيره للقدر: “انسَ الأمر يا جايك، إنه الحي الصيني”.

“الحي الصيني”.. متاهة الحقيقة

يُفاجئ رومان بولانسكي جمهوره في فيلمه «الحي الصيني» (1974/ مدته 133 دقيقة) Chinatown، ببناء سردي معقّد يتجاوز حدود الفيلم البوليسي التقليدي، ليغدو مرآة داكنة تعكس فساد المدينة الحديثة وانهيار الأخلاق خلف واجهة النظام والقانون. ويُعيد بولانسكي عبر عدسةٍ مشبعةٍ بالرموز والمفارقات قراءة مفهوم “الحقيقة”، ويغوص في عمق الذات الإنسانية حين تُساق نحو الوهم، تمامًا كما يُساق المحقق جايك غيتيس في رحلةٍ بحثٍ عبثيةٍ عن معنى العدالة.

وينطلق الفيلم من قضيةٍ تبدو بسيطة: رجل يُدعى هوليس مولري يُشتبه في خيانته لزوجته، فيُستدعى المحقق الخاص جايك غيتيس (جاك نيكلسون) للتحقق من الأمر. غير أن الخداع سرعان ما يتكشف حين تظهر إيفلين مولري (فاي دوناوي) الحقيقية، لتعلن أن من استأجرت غيتيس لم تكن سوى امرأة منتحلة. ومنذ تلك اللحظة، تُفتح بوابة المتاهة، ويُدفع غيتيس إلى عالمٍ يختلط فيه الخاص بالعام، والماء بالدم، والحقيقة بالكذب.

ويُشيّد بولانسكي حبكته على نموذج فيلم “النوار” الكلاسيكي، لكنه يُفرغه من يقيناته القديمة، فلا وجود لعدالةٍ منتصرة، ولا لامرأةٍ فاتنةٍ تُختزل في الإغواء وحده، ولا لمحققٍ قادرٍ على كشف كل الأسرار. وهنا الجميع محاصر في شبكةٍ من الفساد تمتد من أعالي السُلطة إلى أدنى مستوى في المدينة. ويُقدَّم نوح كروس (جون هيوستن) بوصفه التجسيد العاري لسلطة المال والأرض والماء، رجلٌ يمتلك كل شيء، حتى “المستقبل”، كما يقول في حواره الشهير: «الملكية، يا جايك، إنها الوسيلة الوحيدة لتملك المستقبل». هكذا يُعلن بولانسكي عن أطروحته المركزية: الفساد ليس حادثًا، فهو نظامٌ متكاملٌ يتغذّى على براءة من يحاولون مقاومته.

ويُعمّق المخرج هذا المعنى من خلال بنيةٍ بصريةٍ محكمة، فالكاميرا لا تلاحق الشخصيات بقدر ما تُراقبها من خلف الزجاج، ومن زوايا مائلة، وكأنّ المشهد يُرى دومًا من منظورٍ ناقصٍ أو مشوّه. وتُغمر لوس أنجلوس بضوءٍ قاسٍ، لكنّ الحقيقة تظل غارقة في الظل، في تواطؤٍ بصريّ بين الإضاءة والمضمون. وحين يضع بولانسكي الكاميرا خلف النظارات السوداء لغيتيس أو يعكس وجهه في مرآةٍ مكسورة، فإنّه يترجم بصريًا فكرة التمزق بين الرؤية والمعرفة.

ويتحوّل “الحي الصيني” في نهاية الفيلم من مكانٍ جغرافي إلى رمزٍ فلسفيّ، وإلى تلك البقعة التي يفشل فيها الفهم، ويتحوّل فيها النظام إلى عبث. وحين يُقال لغيتيس في المشهد الختامي: «انسَ الأمر يا جايك، إنه الحي الصيني»، لا تعود الجملة مجرّد نصيحة، فهي تصير خلاصة رؤيةٍ وجوديةٍ مريرة: لا جدوى من البحث عن العدل في عالمٍ يحكمه اللاعقل. إنه استسلامٌ أمام قسوة الواقع، وانطفاء الضوء في عيون المحقق الذي ظنّ أنه يملك مفاتيح الكشف.

وينجح بولانسكي في تحويل المأساة الفردية إلى تشريحٍ للمجتمع الأميركي الحديث. فالماء، الذي يُفترض أن يكون رمزًا للحياة، يتحوّل إلى وسيلةٍ للسيطرة السياسية، بينما تُغدو العائلة موقعًا للجريمة، والمحبوبة ضحيةً ومذنبةً في آنٍ واحد. وهنا تتقاطع الجمالية بالفكر، إذ تتماهى اللغة السينمائية مع المضمون النقدي لتُنتج خطابًا مزدوجًا: سرديًّا وإنسانيًّا، جمالياً وأخلاقيًّا.

ويُعيد الفيلم تعريف البطولة والهزيمة معًا. فغيتيس، الذي يحاول “فعل الصواب”، يُهزم لا بسبب ضعفٍ ذاتي، وإنما لأن النظام نفسه مهيأ لابتلاع الصالحين. وهكذا يترك بولانسكي بطله في قلب الخراب، ويتركنا معه أمام سؤالٍ مفتوحٍ حول معنى الحقيقة حين تصير العدالة مستحيلة.

وتتكثّف السينما في “الحي الصيني”، لتصبح أداةً فلسفية، وتتحول الصورة إلى سؤالٍ عن الإنسان وسط العتمة. ويُوقظ الفيلم وعينا بأنّ وراء كلّ مدينةٍ متلألئة حيًّا صينيًا خفيًا، حيث لا شيء يبدو كما هو، وحيث يهمس القدر بجملته الأخيرة: «انسَ الأمر يا جايك» — وكأنّ النسيان هو السبيل الوحيد للبقاء في عالمٍ فقدَ معناه.

رومان بولانسكي وفاي دوناوي: توتر خلف الكاميرا صنع أسطورة “تشاينا تاون”

حين مدّ رومان بولانسكي يده عبر عدسة الكاميرا ليزيح خصلة شعر عن جبين فاي دوناوي دون سابق إنذار، ساد الصمت في موقع التصوير.

لم يكن ذلك الحادث بداية الخلاف بين المخرج والممثلة، لكنه أصبح رمزًا لاحتكاكٍ مكهربٍ طبع تجربة فيلم Chinatown عام 1974، أحد أكثر الأعمال توترًا وإبداعًا في سبعينيات هوليوود.

عرفت فاي دوناوي، منذ Bonnie and Clyde (1967) وThe Thomas Crown Affair (1968)، بشغفها المتطرّف ودقتها في بناء شخصياتها.

وكانت تتعامل مع التمثيل كبحث نفسي وروحي، وترفض السطحية وتطالب باحترام منهجها. وفي المقابل، كان المخرج بولانسكي، صاحب Repulsion وRosemary’s Baby، مخرجًا ديكتاتوريًا في أسلوبه، يعتمد على السيطرة المطلقة وقرارات اللحظة، رافضًا النقاشات الطويلة أو إعادة المشاهد بدافع الأداء. وهذا التباين في الفلسفة الفنية سرعان ما تحوّل إلى صدام دائم على أرض الواقع.

وبدأ التوتر بالتصاعد خلال التصوير الخارجي. فحين طلبت الممثلة دوناوي استراحة قصيرة للذهاب إلى الحمام، رفض بولانسكي طلبها بصرامة. وحين عادت، بحسب شهود، ألقت عليه كوبًا من البول في مشهد أصبح من أكثر القصص تداولًا في كواليس السينما الأمريكية. ولم يؤكد بولانسكي الواقعة، لكن مساعدين له أشاروا لاحقًا إلى أن الجو في موقع التصوير كان مسمومًا ومشحونًا بالاحتقار المتبادل.

وواصل الطرفان صراعهما العلني على طبيعة شخصية “إيفلين مولراي”. ورأت دوناوي أن الشخصية هشّة داخليًا، ومحكومة بجراح خفية، بينما أرادها بولانسكي غامضة وقاسية، أقرب إلى اللغز منها إلى الضحية. وكانت الممثلة تطلب تفسيرًا أعمق لدوافعها، لكن المخرج كان يرفض الخوض في التحليل، مكتفيًا بجملة واحدة: «كل ما تحتاجينه موجود في النص». وهذا الجواب القاطع كان كافيًا لإشعال غضبها.

وفي إحدى اللحظات الشهيرة، طلبت دوناوي إعادة تصوير مشهد صعب. فأجابها بولانسكي ببرودة: «لقد حصلت على ما أريد». وكان يوجّه الكاميرا كما لو كانت أداة تشريح بصرية، متجاهلًا التعب البشري للممثلين. ولامها مرة على كثرة رمش عينيها في اللقطات القريبة، وكأن وجهها جزء من ديكور يمكن التحكم به. واعتبرت دوناوي هذا التحكم إهانةً، وبدأت أحيانًا ترفض الحديث معه مباشرة، مفضّلة إرسال رسائلها عبر المساعدين.

وحاول جاك نيكلسون، الذي لعب دور المحقق جايك غيتيس، أن يبقى على مسافة من الخلاف. في مقابلات لاحقة، وصف العلاقة بين المخرج والممثلة بأنها «صراع ضروري»، مضيفًا أن التوتر بينهما تسلّل إلى نسيج الفيلم وأكسبه صدقه الوحشي. وكان يدرك أن طاقتهما المتناقضة — بين سيطرة بولانسكي واحتراق دوناوي الداخلي — هي ما جعل الكيمياء على الشاشة نابضة ومقلقة في نفس الوقت.

وزاد التوتر حين أخفى بولانسكي عن دوناوي نهاية القصة حتى مراحل متقدمة من التصوير. وأراد أن يصدمها حين تكتشف أن ابنة شخصيتها هي في الوقت ذاته أختها، نتيجة علاقة محرّمة، لكن المفاجأة تحوّلت إلى غضب. وشعرت دوناوي بالخيانة، معتبرةً أن مثل هذه المعلومة ضرورية لبناء الأداء العاطفي. ومع ذلك، فإن الصدمة انعكست في عمق المشهد الأخير، مانحة الفيلم واقعية مؤلمة لم يكن من الممكن تمثيلها عمدًا.

وانتهى التصوير دون وداع بين الاثنين. ولم يتحدثا بعد ذلك أبدًا، لكن النتيجة كانت عملًا فنيًا تجاوز حدود خلافهما. وحصد Chinatown إحدى عشرة ترشيحًا للأوسكار، وظلّ يُدرّس كتحفة من تحف السينما النيو-نويرية.

وتكشف قصة بولانسكي ودوناوي أن التوتر الإبداعي، حين يُدار دون أن يُخمد، قد يصبح مادة للخلود الفني. وفي صدام الإرادة والسيطرة، وُلدت طاقة جعلت من Chinatown أكثر من فيلم؛ جعلته مواجهة بين خيال المخرج وحقيقة الممثلة، بين الجمال والعنف، بين الفن والجرح. ومن رحم هذا الصراع، وُلدت أسطورة لا تزال تتردد في ذاكرة السينما حتى اليوم.

البحث عن الحقيقة

يُعيد رومان بولانسكي في فيلم “الحي الصيني”، صياغة مفهوم البطولة من جذوره، فيجعل من المحقق جايك غيتيس نموذجًا للبطل المأزوم، لا ذاك الذي ينتصر على الشر، وإنما الذي يُدرك في النهاية عبث الصراع مع قوى لا تُهزم. ويتقدّم غيتيس مدفوعًا بيقينٍ مهنيّ، محاولًا كشف الغموض حول خيانةٍ مفترضة، غير أنّ كلّ خطوةٍ يخطوها نحو الحقيقة تجرّه أعمق في مستنقعٍ من الفساد والخيبة. ويظنّ أنه يسيطر على مسار الأحداث، لكنه في الحقيقة يتحوّل إلى أداةٍ في لعبةٍ أكبر منه. ويقول في لحظةٍ من الانكسار: “أعرف ما أفعله، أعرف المدينة، أعرف الناس… لكنّ الأمور لم تعد تسير كما كانت”. وهنا يعلن غيتيس اعترافه المرّ بأنّ خبرته لا تنقذه من عمى البصيرة، وأنّ البطولة في هذا العالم لم تعد فعلًا أخلاقيًا بل تجربةً خاسرة.

وتتّخذ إيفلين مولري موقعًا معاكسًا لسطوة البطل التقليدي. وتبدو في البداية امرأة غامضة تخفي شيئًا، لكنّ الغموض يتكشّف تدريجيًا عن مأساةٍ تتجاوز الخطيئة الشخصية لتلامس العطب الإنساني الأعمق. فحين يواجهها غيتيس صارخًا: «إنه والدك، أليس كذلك؟» تردّ بانكسارٍ أقرب إلى الهمس: «إنه والدي… وهو أيضًا والد ابنتي». وفي هذا الاعتراف المروّع، تبلغ دراما الفيلم ذروتها، وتتحوّل إيفلين إلى رمزٍ للضحية الممزّقة بين الخضوع والمقاومة، بين الحبّ والعار، بين ما لا يُقال وما لا يمكن احتماله. وهنا ينجح بولانسكي في جعل الألم الشخصي مرآةً لجرحٍ اجتماعيّ أوسع، حيث تتحوّل العلاقات الإنسانية إلى مساحاتٍ للعنف الموارب والمسكوت عنه.

ويُقدَّم نوح كروس بوصفه الوجه الآخر لكلّ ما هو أبويّ وسلطويّ ومهيمن. ويتحدّث عن المستقبل كمن يتحدّث عن ملكية الأرض والماء والبشر. ويقول في مشهدٍ بالغ البرودة: «إنك لا تفهم يا جايك، عندما تملك المستقبل، تملك كل شيء». وبهذا الخطاب المجرّد من الرحمة، يضع بولانسكي كروس في موقعٍ رمزيّ يجسّد التوحّش الكامن في السلطة الاقتصادية والسياسية. فالجريمة هنا ليست حادثًا فرديًا، بقدر ماهي امتدادٌ طبيعيّ لهيمنةٍ طبقيةٍ تُعيد إنتاج نفسها من خلال المال والدم.

تنبثق حساسية الشخصيات في الفيلم من عجزها عن التوفيق بين ما تراه وما تعرفه. فغيتيس، الذي كان شاهدًا على الفساد في ماضيه كشرطيّ في الحي الصيني، يُعاقَب اليوم بذات الدوامة التي حاول الهروب منها. وإيفلين، التي تحاول إنقاذ ابنتها من مصيرٍ مشابه، تدفع حياتها ثمنًا للسرّ الذي لم يُفهم في وقته. وبينما يظلّ كروس ممسكًا بخيوط اللعبة في صمتٍ مروّع، وكأنّ الشرّ في عالم بولانسكي لا يُهزم وإنما يُعيد تشكيل نفسه في كلّ جيل.

ويُعمّق الفيلم أبعاده الاجتماعية والسياسية حين يُظهر المدينة ككيانٍ حيّ تُنهكه المصالح الخفية. فالماء، الذي يشكّل محور الصراع، ليس مجرد موردٍ طبيعيّ، فهو رمزٌ للسلطة والحياة والهيمنة. ويتحكّم به الأغنياء لابتزاز الفقراء، ويُدار كوسيلةٍ لتوسيع النفوذ لا لخدمة الناس. وبهذا المعنى، تُصبح لوس أنجلوس نسخةً مصغّرةً عن المجتمع الأميركي في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث يتقاطع رأس المال بالسياسة وتُدفن الحقيقة تحت طبقاتٍ من البيروقراطية والرشوة.

وتتكشّف الأبعاد النفسية عبر انكسار البطل أمام ذاته، فغيتيس لا يُهزم فقط على المستوى الخارجي، وإنما يتهاوى داخليًا حين يُدرك أنّ سعيه للحقيقة ليس سوى محاولةٍ لاستعادة كرامةٍ فقدها في ماضيه. ويُصاب بأنفِه في مشهدٍ شهير، جرحٌ رمزيّ يعكس هشاشته، ويحوّل وجهه إلى قناعٍ يحمل أثر الهزيمة. ومن خلال هذا الجرح، يُعلّق بولانسكي على فكرة “الرؤية المشوّهة” التي ترافق كلّ محققٍ يسعى للمعرفة في عالمٍ تسيطر عليه الأكاذيب.

أما البعد الرمزي في الفيلم فيتجلّى في تحوّل “الحي الصيني” من فضاءٍ واقعيّ إلى حالةٍ ذهنيةٍ وفلسفية، تمثّل حدود الفهم الإنساني حين يصطدم بالعجز الأخلاقي. إنه المكان الذي “لا يمكنك أن تفعل فيه شيئًا صحيحًا”، كما يقول أحد الشخصيات. وفي الحي الصيني، يُختزل الوعي في صمت، ويُختزل الأمل في النسيان. وهنا تبلغ رؤية بولانسكي ذروتها الجمالية: فالمأساة لا تُعرض كحدثٍ صاخب، بل كهدوءٍ ثقيلٍ يبتلع كل محاولةٍ للفهم.

ويُزاوج الفيلم بين الجمالية الكلاسيكية والصراعة الحداثية في بناء الصورة. وتُغرق الكاميرا الشخصيات في أطرٍ ضيقة، وتستخدم الانعكاسات والمرايا لتفكيك وحدة الذات. وتتحوّل الإضاءة الذهبية إلى فخّ بصريّ يُخفي وراءه عالماً من القذارة، بينما توحي الموسيقى الخافتة التي وضعها جيري غولدسميث بنغمةٍ حزينةٍ تتردّد في أرجاء المدينة كما لو كانت تنعى براءةً ضائعة. وهذه الجمالية لا تخدم التزيين، بل تعمل على تأكيد البعد الوجوديّ للفيلم، إذ تُظهر كيف يمكن للجمال أن يُخفي الفساد بقدر ما يفضحه.

وتُجسّد نهاية الفيلم خلاصة فلسفته: حين تُقتل إيفلين أمام عيني غيتيس، وحين ينهار الحلم بالعدالة تحت أقدام الشرطة، يُقال له من جديد: “انسَ الأمر يا جايك، إنه الحي الصيني”. ولا تأتي الجملة هنا كاستسلامٍ فحسب، بل كبيانٍ وجوديّ عن عبث البطولة وعن هشاشة الإنسان في وجه منظومات القهر. ويبتعد غيتيس في الشارع المزدحم بينما تتلاشى ملامحه في ضباب المدينة، فيُغلق بولانسكي المشهد على سؤالٍ مؤلم: ماذا يبقى للبطل حين تُهزم الحقيقة؟

في خاتمة هذا العالم الموحش، يُدرك المشاهد أن البطولة في “الحي الصيني” ليست في الانتصار، وإنما في الاستمرار رغم الخسارة، في رؤية المأساة دون أن تفقد الحسّ الإنسانيّ تجاهها. وهكذا يذكّرنا الفيلم بأنّ البطولة الحقيقية تكمن في القدرة على مواجهة العدم دون أن نكفّ عن البحث عن الضوء، حتى لو كان الضوء بعيدًا، كما قال كروس ذات مرة ببرودة دم: “المستقبل للذين يملكونه، لا للذين يحلمون به”. وفي تلك العبارة، يُختصر العالم كلّه: عالمٌ يملكه الأقوياء، ويحلم به الضعفاء، ويُحاول الفنّ — كما في «الحي الصيني» — أن يفتح فيه ثغرةً صغيرةً للضوء قبل أن يُطبق عليه الظلام.