من إفلاس الخطاب إلى إرهاب المعنى: أزمة التيار السلفي أمام التصوف – زلة “هوية بريس” نموذجًا

حين يُفلس الخطاب، لا تعود الكلمة أداة توجيه ولا بابًا للهداية، بل تتحوّل إلى أداة للهدم، يغلبها الهوى، ويسكنها الغرض، ويقودها الغلّ. ذلك ما لمسناه في المقال الأخير الذي نشره موقع “هوية بريس”، تحت إدارة إبراهيم الطالب، الذي يبدو أنه نصّب نفسه ناطقًا باسم التيار السلفي، دون تفويض من علمائه ولا من أهله، ليخوض معركة عبثية ضد الطريقة القادرية البودشيشية، في وقت يليق فيه بالدعاء أكثر من الإيذاء، وبالصمت أكثر من التشهير.
لم يكتب المقال مدفوعًا بحب الحق، ولا بغيرة علم، بل انساق وراء غريزة عدوانية مريضة، تحرّكها نوايا تخريبية مفضوحة، تعود جذورها إلى خطاب أيديولوجي يُظهر الدعوة ويُبطن التصفية، يُعلن الغيرة ويُخفي التحريض. فقد استغل لحظة مرض شيخ الطريقة، وانشغال أبنائه برعايته، ليُطلق العنان لخياله المتربّص، ويوظّف منبره الإعلامي لتصفية حسابات قديمة مع مدرسة لم يستطع يوماً أن يبلغ مقامها أو أن يناقشها بندية، لأنها مدرسة لم تنشأ من غضب، بل من صفاء، ولم تُبنَ على خصام، بل على إخلاص.
الطريقة القادرية البودشيشية، التي لطالما هاجمها هذا التيار، لم تكن في يوم من الأيام خصمًا لأحد، بل جمعت على طول تاريخها علاقات قوية ومتينة مع علماء الأمة، ومع فقهاء المغرب الأجلّاء، ممن عرفوا حقيقة الطريق وسير أهله، واطمأنوا إلى منهجها في التزكية وخدمة الثوابت، لكن هذه العلاقة الطيبة لم تكن يومًا مع من اتخذوا من الدين سلعة إعلامية، ومن المنابر بوابة للفتنة، ومن “النقد” ممرًا للتشهير والتخوين.
ولا يُمكن في هذا السياق أن نغفل عن أمرٍ جوهري، وهو أن الطريقة القادرية البودشيشية كانت، ولا تزال، من أخلص المدارس الروحية تمسكًا بثوابت الأمة المغربية، وعلى رأسها إمارة المؤمنين، وهي الثوابت التي تُمثل ركيزة الأمن الروحي والوحدة الدينية للمغاربة. فالتصوف المغربي، منذ قرون، كان وسيبقى سندًا شرعيًا وميدانيًا لإمارة المؤمنين، لا ينازعها، ولا يشوش عليها، بل يعمل في ظلها، ويخدم ثوابتها، ويصون مرجعيتها. ولهذا بالتحديد، يُزعج التصوف من تُضمر قلوبهم الرفض لنظام البيعة، والحقد على استقرار المغرب، والسعي إلى خلخلة بنيته الروحية والاجتماعية باسم “الصحوة” و”المنهج”.
ومن مظاهر هذا النجاح الذي بات يُقلق الحاقدين ويحرّك أحقادهم، العمل الجليل الذي تقوده الزاوية في أوروبا، خصوصًا في فرنسا، حيث تحوّلت الزوايا إلى مراكز إشعاع روحي، وجسور دعوية راقية، أفضت إلى إسلام أعداد كبيرة من الأوروبيين، من مفكرين وأطباء وفنانين ومثقفين، دخلوا الإسلام من بوابة المحبة، لا من أبواب التهويل. وهذا النجاح الدولي، لم يأتِ من فراغ، بل من خطاب متوازن، ومضمون نقي، وتربية صادقة، وهو ما فشلت فيه مشاريع أخرى، فاستعاضت عن ضعفها بالتشويش على الناجحين، وتصدير الحقد في شكل حملات إعلامية ممجوجة.
وما أثار حفيظة هؤلاء في الواقع، ليس أمرًا جديدًا، بل هو نجاح التصوف في استعادة مكانته الروحية، وإشعاعه داخل المغرب وخارجه، والتفاف الناس حوله لما وجدوا فيه من سلام داخلي وسكينة قلبية وفهم عميق لمعنى الدين. وبينما تتسع الزوايا وتزداد الملتقيات وتُثمر التربية، ينكمش خطاب التكفير والتفسيق والتخوين، وتتلاشى أصوات من استهلكهم الناس فكرًا، وفقدوا مصداقيتهم وهم يتنقلون من منصة إلى منصة يتصيدون في الماء العكر.
إن ما صدر عن منبر إبراهيم الطالب ليس مجرد انحراف إعلامي، بل وجه جديد لخطاب تكفيري ناعم، يحمل بذور التدمير، ويتلذذ بإسقاط الرموز، ويبتهج بنسج المؤامرات، ويُلبّس كل ذلك ثوب التحقيق الصحفي. ولكن العارف بالله يرى من وراء الكلمات المقاصد، ويدرك أن هذه ليست غيرة على الدين، بل محاولة فاشلة لتفكيك النسيج الروحي للأمة، عبر استهداف أبرز معالمه المتمثلة في الطرق الصوفية المعتدلة التي لا تزال تشكّل صمّام أمان بين الدولة والدين.
أما عورات القوم – وهي كثيرة – فإننا لا نذكرها لا عجزًا، بل أدبًا، لأن طريقنا هو طريق الستر، لا الفضيحة، والإصلاح، لا الانتقام. لكننا نعلم، ويعلم من كان له قلب، أن من يفتح أبواب الأعراض، عليه أن يستعد ليُكشَف ستره هو أولًا، وإن في أرشيف هذا التيار من الفتاوى، والعلاقات، والانحرافات، ما يكفي لفضح مشروعه بأكمله. ومع ذلك، لا نرد بالمثل، لأن التصوف لا يشتغل في الظلمة، ولا ينتقم من العثرات، بل يُسلّم الأمر لله، ثم يضع الكلمة في موضعها.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]،
وهذه الآية تنطبق بدقّة على من جعلوا من التأليف الإعلامي بابًا للطعن، ومن ظرف المرض فرصة للطعن في المقاصد والنيات، وما أشد جرم ذلك عند الله.
وفي النهاية، نقول: إننا لا نخشى من “هوية بريس”، ولا من كل من يحاول النيل من التصوف المغربي الأصيل،
لأنه طريق لا يُبنى بالضجيج، بل بالمجاهدة، ولا ينتشر بالمال، بل بالإخلاص، ولا يُحافظ عليه إلا لأنه متجذر في تاريخ الأمة، محمي بثوابت المملكة، مروّي بدماء الأولياء، ومغروس في قلوب العارفين.
وما نقوله اليوم، ليس ردًّا عن ضعف، بل تحذير هادئ من استسهال الفتنة باسم الدعوة، فإن من يلعب بنار الطعن في أهل الله، قد يحترق قبل أن تُصيب نيرانه غيره.
تعليقات 0