5 ديسمبر 2025 19:10
الرئيسيةأخبارفيلم “شكل الماء” .. سحر الغموض والإنسانية في سينما غييرمو ديل تورو

فيلم “شكل الماء” .. سحر الغموض والإنسانية في سينما غييرمو ديل تورو

يستهل فيلم “شكل الماء” رحلته السينمائية بغموض ساحر يأسرك منذ اللحظة الأولى، حيث يمتزج الحلم بالواقع وتتراقص المخلوقات بين الظلال والماء، ليطرح أسئلة عميقة عن معنى الحب والاختلاف والحرية. وبأسئلة عميقة: هل يمكن للآخر المختلف أن يكون مرآة لذواتنا؟ وهل تكمن الشجاعة الحقّيقية في المقاومة أم في القدرة على التعاطف والقبول داخل عالم يسعى دائمًا للسيطرة والتمييز؟ وكيف نحمي براءتنا ونسمح لعاطفتنا بالتحليق فوق القيود الاجتماعية والنفسية؟ ويطرح الفيلم هذه التساؤلات عبر لغة جسدية ورمزية غنية تجعل المشاهد يعيش كل شعور وكأنه جزء من الحكاية. تقول إليسا في لحظة صمت مليئة بالإحساس: “حين أنظر إليه أرى نفسي وأرى العالم كما يجب أن يكون”. فتتحول الكلمات إلى دعوة للتأمل في الحب الحقيقي والرحمة والقدرة على رؤية الجمال فيما يظنه الجميع غريبًا أو مخيفًا… حيث نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل موسيقى تصويرية وجائزة أفضل تصميم إنتاج. وهذا جوهر هذه الحكاية النقدية.

حب وتضحية وتواصل

قدّم المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو في فيلم The Shape of Water، “شكل الماء” (إنتاج 2017/ المدة 123 دقيقة) تجربة سينمائية استثنائية تتجاوز حدود الواقع لتغوص في عالم الفانتازيا والرمزية، مجمعة بين الرومانسية، والخيال العلمي، والدراما الإنسانية. وينتمي الفيلم إلى نوعية السينما الفانتازية الواقعية أو السحرية الواقعية، حيث تختلط عناصر الحياة اليومية مع الكائنات الخارقة والرموز المجازية، في فضاء تصويري غني بالألوان، والإضاءة، والموسيقى التي تضفي إحساسًا بالغرابة والجمال في الوقت ذاته.

وتجسّد القصة حكاية إليسا، (سالي هوكينز) امرأة صامتة تعمل خادمة في مختبر حكومي سري خلال فترة الحرب الباردة في الستينيات، وكيان مائي غامض محتجز ضمن التجارب العلمية. ويصنع ديل تورو علاقة غير تقليدية بين الإنسان والمخلوق، ما يسمح للفيلم باستكشاف القيم الإنسانية الأساسية من حب، وتضحية، وتواصل يتجاوز الكلمات. وينقل الفيلم رسالة قوية حول حقوق الفرد والحرية والقبول بالاختلاف، مجسدة في مشاهد عديدة تتسم بالحنان والرهبة، ويعكس أسلوب المخرج في الدمج بين العاطفة والخيال بطريقة سلسة ومؤثرة.

ويبني الفيلم سردًا متشابكًا يجمع بين البنية الكلاسيكية والحبكة الرمزية، حيث تبدأ الأحداث بتقديم شخصية إليسا في حياتها اليومية، قبل أن تتشابك المصائر مع المخلوق المائي. ويعتمد الفيلم على تصوير بطيء ومترابط للمشاهد، يتيح للجمهور فرصة التعاطف مع الشخصيات وفهم دوافعها الداخلية، ويخلق توترًا متصاعدًا مع اقتراب اللحظات الحاسمة في محاولة الهروب والنجاة. ويضع المخرج الجمهور أمام صراع بين الإنسانية والقسوة، وبين النظام والحرية، ما يمنح الفيلم عمقًا فلسفيًا وأخلاقيًا بعيدًا عن السينما التجارية البحتة.

ويبرز الفيلم قوته من خلال استخدامه للخطاب البصري بشكل فني متقن، حيث تعتمد الكاميرا على لقطات مقربة للوجوه لتجسيد الصمت الداخلي لإليسا، ولحظات السحر والرهبة عند تفاعل الشخصيات مع المخلوق. ويعكس تصميم الإنتاج والديكور عناصر الستينيات بدقة، مع منح الكائن المائي طابعًا شبه إنساني يجسد البراءة والغموض في آن واحد، مما يعزز الرسالة الإنسانية للفيلم. وتعمل الموسيقى التصويرية لألكسندر ديسبلات، على تعزيز الإيقاع العاطفي للمشاهد، من خلال مقطوعات دقيقة تمزج بين الحزن والجمال والرومانسية الغامرة.

روح الحب المستحيل والعاطفة الصامتة

يتناول فيلم “شكل الماء”، قضايا عديدة منها العزلة الاجتماعية، والرفض المجتمعي، والمراقبة الحكومية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة وغير العادي. وتمثل إليسا، المرأة الصامتة، رمزًا للقوة الداخلية والصمود، حيث تقول: “أنا أرى ما لا يراه الآخرون”، في إشارة إلى قدرتها على التواصل مع المخلوق المائي وفهمه بدون كلمات. أما المخلوق، فينقل من خلال تصرفاته غير اللفظية لغة الإنسانية الكامنة، مما يجعل المشاهد يدرك أن الفهم والتواصل لا يحتاجان إلى الحروف أو الأصوات.

ويستحضر ديل تورو من خلال الفيلم روح الحب المستحيل والعاطفة الصامتة، حيث تتحرك الشخصيات ضمن فضاء مليء بالعقبات والتهديدات، ومع ذلك تتخطى الحدود التقليدية للعلاقات الإنسانية. ويعكس الفيلم أيضًا نقدًا اجتماعيًا للحكومات والمؤسسات العسكرية التي تقمع الحرية وتنتزع الإنسانية من الأفراد، كما يقول الممثل مايكل شانون: “أحيانًا يكون الوحش ليس من الماء بل من الداخل”. وتلتقط هذه العبارة جوهر الصراع في الفيلم بين الطيبة والوحشية، بين الحلم والواقع، بين الحب والقهر.

ويستمد الفيلم قوته الجمالية من الجمع بين الفانتازيا والدراما الواقعية، حيث تحاكي المشاهد الخيالية المشاعر الإنسانية بصدق، وتخلق مساحة لتأمل الجمهور في معنى الحب والتعاطف والتضحية. ويشدد ديل تورو على قيمة الاختلاف، ويحتفي بالأفراد الذين يعيشون خارج المعايير الاجتماعية المعتادة، من خلال علاقات إليسا مع المخلوق والرفاق الداعمين مثل زملائها في المختبر.

ويلتقط الفيلم البنية الخطابية بطريقة متوازنة بين الصمت والكلام، حيث يعتمد على لغة الجسد والتعبيرات البصرية لتعويض الكلمات، ويمنح المشاهد فرصة لاستيعاب المشاعر العميقة لكل شخصية. وتتشابك عناصر الحبكة مع الرمزية لتظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة والقوة الروحية للخيال. ويقول توري كولتر، الذي يلعب دور صديق إليسا: “في بعض الأحيان، أصواتنا الأقوى هي تلك التي لا يسمعها أحد”، مؤكدًا على أهمية الصمت والتواصل غير المباشر في الفيلم.

ويبرز فيلم “شكل الماء”، كأحد أهم أعمال ديل تورو السينمائية لأنه يجمع بين السرد الملحمي والدراما الإنسانية، ويعيد تعريف نوعية الأفلام الرومانسية الفانتازية. ويصور الفيلم أن الحب لا يعرف حدودًا وأن الإنسانية تتجلى في التعاطف والتواصل وفهم الآخر، حتى لو كان مختلفًا أو خارقًا للطبيعة. ويظل الفيلم تجربة بصرية وعاطفية استثنائية، يثير التساؤل حول طبيعة البشر والوحوش، ويؤكد قدرة السينما على المزج بين الجمال والرمزية والحبكة الإنسانية العميقة.

سينما الاختلاف والإنسانية والحرية

يظهر البطل في فيلم “شكل الماء”، كمخلوق مائي غامض يجمع بين القوة والضعف، بين البراءة والذكاء، ليصبح شخصية محورية تحمل أبعادًا متعددة: اجتماعية ونفسية ورمزية وجسدية ولغوية وجمالية.

ويعتمد ديل تورو على هذا الكائن لتجسيد موضوعات معقدة مثل الاختلاف والإنسانية والحرية، ويخلق من خلاله صراعًا داخليًا وخارجيًا يعكس العالم الذي يعيش فيه. ويمثل هذا البطل، من حيث البناء الفني والدرامي، محورًا لفهم القيم الأساسية التي يناقشها الفيلم، كما يعكس قدرة السينما على تقديم شخصيات غير بشرية تحمل رسائل إنسانية عميقة.

ويستحضر المخلوق في الفيلم مشاعر التعاطف والانتباه من خلال حساسية عالية تجاه محيطه. ويواجه العزلة والاحتجاز القسري، مما يجعله شخصية معبرة عن القمع والخوف من الآخر المختلف. ويُبرز الفيلم من خلاله التمييز الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع، ويظهر كيف يمكن للإنسانية أن تنشأ في بيئة غير مواتية. ويعكس المخلوق قدرة الفرد على مواجهة الاستبداد والتحديات البيئية والاجتماعية دون فقدان جوهره الأخلاقي، كما تقول إليسا في لحظة تعاطف: “أرى ما لا يراه الآخرون”، في إشارة إلى فهمها العميق للطبيعة الإنسانية داخل المخلوق، وقدرته على التواصل رغم الاختلاف.

ويعتمد الفيلم على الأبعاد النفسية للبطل لتسليط الضوء على الصراعات الداخلية التي يعيشها. ويظهر المخلوق مترددًا وخائفًا في بعض اللحظات، لكنه يمتلك القدرة على اتخاذ قرارات شجاعة، مما يعكس التوتر بين البراءة والقدرة على مواجهة المخاطر. ويلتقط ديل تورو من خلال هذه الأبعاد النفسية الصراع الأبدي بين الضعف والقوة، وبين الحاجة إلى الحماية والرغبة في الحرية. وفي مشاهد مثل الهروب من المختبر، حيث يعبر المخلوق عن غضبه وحزنه وإيمانه بالعدالة بطريقة جسدية ولغوية بصرية تتيح للمشاهد إدراك التعاطف العميق معه.

ويستحضر الفيلم بعده الرمزي ليكون المخلوق المائي رمزًا للآخر المختلف، وللإنسانية التي لا تعرف حدودًا بين الجنس والعرق والقدرات. ويمثل قوة الحب والتعاطف والقدرة على التواصل خارج الأطر اللغوية التقليدية. ويظهر هذا البعد في كل لقاء بين إليسا والمخلوق، حيث تتطور العلاقة تدريجيًا إلى حب صامت يتجاوز الكلمات والصمت، ويقول المخلوق من خلال تعابير جسده وعيونه: “في الماء أجد نفسي، وفيك أجد العالم”، وهذا ما يعكس رسالته الرمزية عن التواصل والقبول.

في معنى الدفاع عن الذات والآخرين

يعتمد الفيلم أيضًا على الأبعاد الجسدية للبطل لإبراز قدرته على التكيف مع البيئة المختلفة والصراع من أجل البقاء. وتتحرك الشخصيات في الفضاءات الضيقة والمياه، ويظهر المخلوق مرنًا وسريعًا، مما يعكس القوة في الظاهر والضعف الكامن في الداخل. ويستخدم ديل تورو الحركة والإيماءات الجسدية للتعبير عن الشخصية الداخلية للمخلوق، ويجعل المشاهدين يشعرون بالرحمة والإعجاب في الوقت نفسه. وتتشابك هذه الأبعاد الجسدية مع الجانب الجمالي للفيلم، من خلال الإضاءة والألوان التي تبرز ملمس الجلد والبيئة المائية، وهو ما يخلق تجربة حسية غنية تجمع بين الواقع والخيال.

ويستند الفيلم على اللغة البصرية وغير اللفظية للبطل، إذ لا يتحدث المخلوق بأي كلمات، ويعتمد على الإيماءات والعيون للتعبير عن مشاعره وأفكاره، ما يجعل المشاهدين يقرأون الرسائل الإنسانية من خلال تعابيره وحركاته. ويعكس هذا البعد اللغوي قدرة السينما على تجاوز الكلمات لنقل المشاعر والأفكار، كما تقول إليسا: “أحيانًا يكون الصمت أصدق من أي كلام”، في تأكيد على أن التواصل الحقيقي يمكن أن يكون بصريًا أو جسديًا وليس لفظيًا فقط.

ويدافع البطل في الفيلم عن القيم الأساسية مثل الحرية، والكرامة، والحب، ويواجه القوى القمعية التي تسعى لاستغلاله واختباره. ويمثل صموده في مواجهة التجارب العلمية مثالاً على الدفاع عن الذات والآخرين، ويبرز الفيلم من خلاله نقدًا اجتماعيًا للأنظمة التي تسعى لفرض السيطرة على المختلفين، ويعكس ضرورة حماية حقوق الكائنات والأفراد من الاستغلال. ويقول صديق إليسا في الفيلم: “أحيانًا يكون الوحش ليس ما تراه العين بل ما يراه القلب”، وهو ما يسلط الضوء على أن البطل الحقيقي ليس من يظهر قوته بالعنف وإنما من يحافظ على إنسانيته في مواجهة الظلم.

ويتناول الفيلم أيضًا الأبعاد الاجتماعية للبطل من خلال علاقته بإليسا وزملائها، حيث يشكل رابطًا اجتماعيًا قائمًا على التعاطف والمشاركة والدعم. ويجسد هذا الرابط قدرة الفرد على بناء مجتمعات صغيرة قائمة على الحب والقبول، بعيدًا عن القواعد الصارمة والتفرقة المجتمعية. ويتفاعل المخلوق مع العالم الخارجي بحذر لكنه يظهر الوفاء والمحبة لأولئك الذين يقدرونه ويفهمونه، ليكون بذلك نموذجًا للعلاقات الإنسانية القائمة على الثقة والاحترام المتبادل.

ويسلط الفيلم الضوء على الأبعاد الجمالية للشخصية من خلال التصميم الفني والديكور والإضاءة، حيث يبرز المخلوق بين ألوان المياه والزجاج والإضاءة الخافتة ليخلق صورة سحرية وجذابة. ويعكس هذا البعد الجمالي العلاقة بين الجمال الداخلي والخارجي للبطل، ويعزز الشعور بالرهبة والإعجاب والتعاطف لدى الجمهور، ويجعل تجربته السينمائية فريدة.

ويستعرض الفيلم أيضًا الأبعاد الرمزية للحبكة السردية من خلال العلاقة بين إليسا والمخلوق، حيث يمثل الحب القوي والمفتوح قوة التغيير والتحرر من القيود الاجتماعية والنفسية. وتتجلى هذه الرمزية في كل مشهد من المشاهد المشتركة بين الشخصيتين، من خلال النظرات والتلامس والحركة، لتؤكد على قدرة السينما على خلق رسائل عاطفية قوية دون الاعتماد على الحوار التقليدي. ويقول المخلوق في إحدى اللحظات من خلال صمته وتعابيره: “في الماء أجد هويتي، وفيك أجد قلبي”، وهذا ما يختزل جوهر العلاقة ويبرز أبعاد الحب والتواصل العميقة في الفيلم.

ويبرز المخلوق في فيلم “شكل الماء”، كشخصية متعددة الطبقات تمثل الإنسان في صورته الأكثر صدقًا، حيث تتشابك الأبعاد الاجتماعية والنفسية والرمزية والجسدية واللغوية والجمالية لتقديم صورة متكاملة عن الفرد المختلف، وعن الصراع بين القمع والحرية، والحب والعزلة، والقوة والضعف. ويجعل الفيلم من هذه الشخصية رمزًا للإنسانية وللأمل في عالم يقبل الآخر المختلف ويحتفي بالتنوع، ويثبت أن السينما قادرة على نقل القيم العميقة من خلال شخصية غير بشرية، وتجربة حسية وعاطفية متكاملة تلامس المشاعر وتثير التساؤلات عن معنى الحب والحرية والعدل.

يختتم فيلم “شكل الماء” رحلته بأسلوب يترك أثرًا عميقًا على المشاهد، حيث يجمع بين الحلم والواقع، بين الحب والحرية، وبين الإنسانية والاختلاف، ليؤكد أن التماهي مع الآخر واكتشاف جوهره قادران على تغيير العالم حولنا. وتقول إليسا بصوت خافت لكنه ملؤه الإحساس: “أراه، وأعرف أن العالم أكبر من كل ما يخيفنا، وأدرك أن الحب وحده قادر على إنقاذنا”. فتتجسد في هذه الكلمات قوة التعاطف والولاء والجرأة على الحلم، لتبقى شخصية المخلوق المائي رمزًا خالدًا للحرية والمقاومة والقدرة على الحب دون شروط، حيث تترك قلب المشاهد مفتوحًا على التسامح والتأمل في جوهر الإنسان والآخر المختلف.